غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة والمسموعة. إضافة إلى شبكات التواصل الاجتماعي التي روّادها كلّ سكّان المعمورة.

الإعلام العربي استبدّ بالأيام والليالي، فهو المؤثّر الأوّل في تشكيل الرأي العامّ وتحديد مستوى وعمق التفاعل مع مجريات الحرب، ذلك أنّ المشاهد التي تنقلها الفضائيات هي الصلة الوحيدة بين مليارات البشر وبين مليونين ونصف مليون غزّي. وهي مشاهد تختزل كلّ حروب الكون في مساحة ثلاثمئة كيلومتر مربّع. أي بمساحة مدينة من تلك المدن التي شهدت حربين عالميّتين في قرن واحد.

 

في غزّة كلّ شيء

في غزّة عدد محدود من البشر وعدد أقلّ كثيراً من حمَلة السلاح المقاومين الذين يستوطنون الأنفاق والركام. وذلك داخل حدود المكان، وأمّا في ما وراء الحدود وعلى امتداد مساحة الكون كلّه فكلّ شيء يُفعل إلا الشيء الوحيد الذي يجب أن يُفعل، وما أعنيه بكلّ شيء هي الإدانات الرسمية والشعبية لمذبحة القرن الحادي والعشرين، والتظاهرات التي تملأ شوارع المدن وتضجّ بالهتافات وتظلّلها الأعلام والشعارات بكلّ اللغات، والاتّصالات التي لا تتوقّف بين الزعماء القريبين والبعيدين، والتجهيزات لإرسال ماء ودواء وغذاء يصل بعضها ويتعطّل معظمها. ليس لأسباب لوجستية كما يقال، بل لأنّها دخلت في صلب المساومات حول الأجندات.

فلا لقمة خبز أو شربة ماء أو حبّة دواء إلا بعد الاتفاق على سعرها السياسي، وكم تؤثّر في الأجندات. أمّا ما لا يُفعل فهو فقط ما يحتاج إليه أهل غزّة فعلاً.

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه

في غزّة مَن يحبّ استخدام مفردة “غير المسبوق” في وصف حتى البديهيّات، إلا أنّ هنالك غير مسبوق بالفعل. وهو دراما النزوح الجماعي داخل المكان الضيّق، الذي عديده مئات ألوف البشر، وبدأ من بعض الشمال إلى بعضه الآخر، ثمّ من المخيّم إلى وسط المدينة، ثمّ من الشمال والمخيّم والوسط إلى وادي غزّة، ثمّ من وادي غزّة إلى الجنوب، ومن بعض الجنوب إلى بعضه الآخر. وجنباً إلى جنب مع مطر الموت المنهمر بلا هوادة من البحر والبرّ والجوّ، تُبرم صفقات تجارية مع منتجي الخيام، كي يحظى المهجّرون بمأوى إلى حين الانتهاء من قتل الذين لم يغادروا بيوتهم، ولسان حالهم يقول “الموت في بيتنا أرحم”.

النّزوح من الخطر إلى الأخطر

ظاهرة النزوح من مكان قريب خطر إلى مكان قريب أخطر. أنتجت مساحات تُعتبر مناطق حرّة، أعدّتها الأقدار لبناء مخيّم يتّسع لمليون آدميّ ليكون أكبر مخيّم على وجه الأرض. إن أقيم فسوف يسكنه أناس لم يهاجروا من قارّة إلى أخرى كما حصل في زمن الربيع العربي والكورونا والمجاعات. بل أناس هُجّروا من تحت مطر القصف ليذهبوا إلى مكان يكون فيه الموت أقلّ، وهذه المرّة مشياً على الأقدام.

في غزّة، وعلى مدى أشهر الحرب، التي لم يُعرف بعد متى تنتهي، نشأت ظاهرة العودة من الركام إلى الركام. جيش جرّار من آدميين أرهقهم اللجوء حتى لو كان في كنف أهلهم فقرّروا العودة إلى المكان الأوّل الذي هُجّروا منه. لم يأبهوا لموت يدبّره الخصم بناره، للتخويف والردع وغالباً للقتل.

غزة

الكلّ يحتفظ في خياله بالبيت الذي غادره حين طُلب منه الذهاب إلى بعض أمان قد يجده في مكان آخر. حينها قال لزوجته وأطفاله: “هيِّ كم يوم وبنرجع”. كان آباؤه وأجداده قالوا الجملة عينها قبل ثلاثة أرباع القرن حين انكفأوا من قراهم إلى ما نجا من الاحتلال في القطاع. فإذا بلجوئهم المؤقّت يصبح دائماً، وإذا بالمخيّمات تتحوّل إلى أوطان جديدة.

في غزّة عدد محدود من البشر وعدد أقلّ كثيراً من حمَلة السلاح المقاومين الذين يستوطنون الأنفاق والركام

بلغ عديد اللاجئين في النكبة الأولى أكثر بكثير من عديد سكّان غزة غير اللاجئين، فكتبت عليهم أقدار الحرب أن يحلموا بأكثر من عودة. وهي من النوع الذي “أقربه صعبٌ كأبعده”.

في غزة مجموعة بشرية محدودة العدد تعيش على أرض محدودة المساحة. تتعرّض لنار لم تتوقّف حتى لبعض وقت يكفي لانتشال الجثث من تحت الأنقاض، أو لإقامة صلوات جنازة في الهواء الملوّث برائحة البارود، أو للنوم تحت أزيز الطائرات التي إن لم تلقِ بحممها على النائمين فيكفي أزيزها لينتج أخطر الأمراض النفسية التي تبقى مع من يصاب بها مدى الحياة. وإن وجدوا بعض قطن طبّي ليسدّوا آذانهم، فأزيز الطيّارات التي سمّاها أهل غزة “بالزنّانة” هو صوت عابر لا رادّ له.

هول ما يُطلب من غزّة

غزّة هذه بكلّ ما فيها وما عليها، وبكلّ خذلان ما حولها، وبكلّ الغموض الذي يكتنف غدها. مطلوب منها وفق أوامر الإعلام العربي، والأجندات والمصالح والارتباطات، وأسلحة البرّ والبحر والجوّ والثروات، أن تحقّق للأمّة كلّ ما لم تستطِع تحقيقه، وأن تعيد كرامة مهدورة لملايين وربّما لمليارات البشر، الذين سحقتهم الهزائم ولا أمل لهم بنصر إلا إذا وفّرته غزة.

الشاشات تنقل الزحام على رغيف خبز وكمشة عدس على أنّه عار على الخصم الذي أنتج كلّ ذلك، ولا عار علينا. وتصوّر الزحام على أنّه تسابق على المجد واستعادة الكبرياء والكرامة.

الشاشات تنتزع من السهرات التي لا ينقصها شيء من أشياء الأيام العاديّة كالمكسّرات والمحارم الورقية لمسح الدموع. خبراء يجيدون الكلام وترجمة الخرائط الإلكترونية. هذا خبير في الشؤون العسكرية، وذاك في الشؤون الاستراتيجية، وذلك في الشؤون الإقليمية والدولية. إلى آخر ما يلزم لملء ملايين ساعات الحرب الموازية.

ظاهرة النزوح من مكان قريب خطر إلى مكان قريب أخطر، أنتجت مساحات تُعتبر مناطق حرّة

لا أدري إن كان هؤلاء يعرفون أو لا يعرفون أنّ من يعيشون البؤس في غزة لا يحبّون سماع كلمة نصر في وصف ما يعيشونه، ولا يحبّون مقاربة الزحام على لقمة العيش. كما لو أنّه ممرّ حتميّ إلى الكبرياء المفقودة، والكرامة المستباحة، لأمّة تنتظر أن يبزغ فجرها من دمار غزة.

غزّة المظلومة من القوم والخصم، والغريقة تحت بحر من التعاطف العاجز والرهانات التي لا صدقية لها. بحاجة اليوم قبل الغد، إلى توقّف هذه المقتلة أوّلاً. وهذا لن يتمّ بالطريقة التي اعتُمدت على مدار السبعة أشهر دون أن تحقّق غير ارتفاع منسوب الدم واتّساع مساحات الدمار وانسداد الآفاق. إنّ كلّ ما يجري الحديث عنه حول اليوم التالي، وكلّ الوصف اللغوي للآمال المعلّقة عليه. لا يهمّ أهل غزّة ولا يستبدل أولويّاتهم الملحّة، وأوّلها وقف الحرب، وبعد ذلك سوف تنتقل المسؤولية إلى غيرها فلسطينيين وعرباً ودوليين.

إقرأ أيضاً: إسرائيل: حروب المدن وتخريب الجيوش

أهل غزة قدّموا من التضحيات ما يكفي ويزيد، وإن سألتهم ماذا يريدون، وهذا حقّ لهم، فسيقولون بصوت واحد: وقف هذه المقتلة، فحياتنا تعود من جديد ليس في اليوم التالي حسب التقويم الأميركي والإقليمي والدولي. وإنّما في اليوم التالي لانتهاء المقتلة وحسب غزّة. إنّها على الرغم من كلّ ما حدث لم ترفع الراية البيضاء.

هل تعرفون، يا سادة يا كراماً، ما المشترك بين حرب غزة ومباريات كرة القدم؟.. لاعبو الكرة أحد عشر، والمتابعون مباشرة ومن خلال الشاشات يعدّون بالمليارات.

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…