محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

المتسبب في ظلمة المسارات في الشرق الأوسط

لا أرى في المستقبل القريب أي انفراج في الملفات العالقة في كل من سوريا واليمن والعراق ولبنان، غرفة العمليات التي تتحكم في مسارات الأحداث موجودة في طهران، وهي محكمة الإغلاق على بضع نفر، ولا أقصد هنا حكومة طهران التي يقودها السيد حسن روحاني، ولا وزير خارجيته السيد جواد ظريف، صاحب الكلمات المعسولة في العلن، كالمطالبة بالحوار وحسن الجوار! هي موجودة عند الولي الفقيه، الذي يحمل صفة الخلافة عن المعصوم، وبالتالي فهو وقراراته معصومان من الخطأ. يرى بعض فقهاء الشيعة أن فكرة ولاية الفقيه أدخلت تشوهات على المذهب الاثني عشري من خلال ربطه بمتغيرات سياسية آنية، ولكن هؤلاء لا يزالون في القلة ودون غطاء أو ثقل على الأرض لبعدهم عن السلطة، تلك التشوهات أصبحت متداخلة في بناء (قومي/ مذهبي) له تطلعات إمبراطورية. تذكرنا غرفة العمليات الحالية في طهران إلى حد كبير بمشروع عبد الله بن ميمون صاحب الفرق السبع، الذي يقول لنا التاريخ إن عداءه للإسلام العربي سار به مسارًا عنيفًا إلى حد الصدام مع القاعدة الأعرض من المسلمين، طبعًا مع اختلاف في المتغيرات، فهي اليوم صدام سياسي مغطى بستار كثيف من الآيديولوجيا المذهبية. المعصومية تتجاوز الأصل إلى التابع، ففي لبنان، على سبيل المثال، يمكن أن يُنقد (أكبر رأس) في الدولة، ولكن من يجرؤ على نقد حسن نصر الله يكتب في الوقت نفسه وصيته!
تقديس الولاية كونها (نائبة الإمام) يجعل لها طاعة بين العامة غير مسبوقة وغير مساءلة من أي مجموعة أو جهاز من أجهزة الدولة الإيرانية، ومن تابعيها خارج حدود الدولة، هي تأمر فتطاع، ونائب الإمام له رسالة واحدة هي أن يُخضع كل من حوله لإرادته في الوطن وفي الجوار، هي لا تؤمن بالحدود الوطنية، بل تؤمن بتوليفة من الثورية والطائفية معًا. وليس غريبًا أن تلك الإرادة تتناقض أو تعزف معزوفات سياسية تبدو للعاقل متناقضة، وتتمظهر في مناطق كثيرة من الشرق الأوسط، إلا أنها في نهاية المطاف تتوجه لتحقيق الأهداف بصرف النظر عن الوسائل. خذ مثلاً الحرب في سوريا، هي حسب الإعلان الولائي الدائم حرب دفاع عن الشرعية، والعمل نفسه في اليمن وإن كانت حرب هدم الشرعية مبررًا أيضًا! تناقض المبررات هنا ليس له أهمية، فلا بأس من ذلك من أجل الهدف الموحد. اليمينية الفرنسية ماري لوبان كما صرحت في لبنان مؤخرا بأنها مع بقاء النظام السوري، لأنه علماني! ذلك التصريح وجد صدى إيجابيًا في غرفة العمليات في طهران، رغم قولها بدعم إسرائيل وشيطنة الفلسطينيين! هذا ليس مهمًا، وهكذا وفي معظم الملفات نجد أن تلك الغرفة توائم موقفها مع أهدافها هي فقط، أما الشعارات والمبادئ فهي للاستهلاك المحلي وبيعها على السذج، كالقول بالممانعة.
لو وضعنا الملفات أمامنا فسوف نجد أن الموقف من العراق، بعد أن تهيأ لغرفة العمليات وضع اليد السياسية عليه، تحول إلى وضع اليد الاقتصادية، فقد تم توقيع اتفاق مؤخرًا بين الحكومة العراقية، التي في الغالب ليس أمامها إلا الامتثال لإملاءات غرفة العمليات في طهران، من أجل نقل النفط العراقي من كركوك إلى عبدان، الميناء النفطي الإيراني على ضفاف الخليج، الهدف هو إحباط التطلعات الكردية لشيء من الاستقلال بسحب المصدر الرئيسي للتمويل (النفط) وإحباط أيضًا أية طموحات لكرد إيران! وأيضًا ربط الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الإيراني، الذي تم على مراحل، حيث أغرقت السوق الاستهلاكية العراقية بالبضائع الإيرانية، ربط الاقتصاد أحد أهداف غرفة العمليات في طهران.
في الملف السوري لن نشهد أي اختراق قريب من كل تلك اللقاءات بين المعارضة والنظام، سواء في الآستانة أو جنيف، لأن غرفة العمليات ترى أنها الرابحة الآن من خلال تعضيد النظام السوري، وهي لن تتخلى عن ورقتها، إلا بإذعان غير مشروط من أية جماعة أو فرقة ترغب أن تحقق للشعب السوري حريته. ليس مهمًا كم من الدماء السورية تسفك، ولا كم من جماجم الأطفال السورية تسحق، ما دامت تذهب قربانًا لغرفة عمليات الفقيه، فرئيس الفريق للنظام المفاوض لا يتوانى في الإشارة دائمًا إلى الفريق الآخر (المعارضة) بأنهم ليسوا أكثر من إرهابيين وشذاذ آفاق ومأجورين! حيث إن الحرب في سوريا في نظره ليست حربًا لنيل حقوق الشعب السوري، بل دفاع عن نظام إيران، كما ذهب ولي الفقيه للقول.
في لبنان بعد انتخاب مجلس نيابي عام 1990 تحت تسوية الطائف، استمر ذلك البرلمان طويلاً، كي ينتخب خمسة رؤساء جمهورية على التوالي، وأرغم اللبنانيون بقوة سلاح «حزب الله» على الإذعان! ورغم كل الضجة اليوم باحتمال التوافق على نظام انتخابي جديد فهو تمنٍ غير محقق، لأن غرفة العمليات سوف تحرك ذراعها في لبنان لاعتراض أي تسوية لا تستفيد منها، فالأمر باقٍ إلى ما شاءت تلك الغرفة أن يبقى، أما مصالح اللبنانيين فهي غير محسوبة! لقد استقرت لدى النخبة الصغيرة حول غرفة العمليات أفكار غير سوية، فهم ينظرون إلى أن الإصلاحات في الخليج ما كانت لتتم لولا الضغط المباشر والدائم من غرفة العمليات تلك، ذاك اقتناع يستطيع أي عاقل أن يستشفه عند الحديث مع أي مسؤول إيراني له علاقة بتلك الغرفة! خصائص الوعي المذهبي/ السياسي لدى النخبة الإيرانية الملتصقة بغرفة العمليات تبعدها عن الفهم العقلاني للمشاكل التي تواجهها الدولة الإيرانية في الداخل وفي الجوار، وتُكيف كل ما يحدث في الجوار على أنه انتصار لمشروعها، فهي موجودة في العراق وفي سوريا وفي اليمن ولبنان، وقادرة على أن تظهر شوكتها من خلال أتباعها في أماكن أخرى من البلاد العربية، وبعض من اتبعها يعتقدون أن أي تقدم في حقوقهم هو ليس بسبب تطور وطني ولكن بسبب الضغط القادم من غرفة العمليات تلك! الورقة الأخرى التي تستخدمها غرفة العمليات هي الورقة الفلسطينية، فكلما أرادت إثارة الجمهور ألبست القضية فكرة (السرطانية) التي تشبه بها إسرائيل، وتتغاضى عن (صفقة إيران غيت المشهورة) وترى أن إعلانًا على وسائل الإعلام تجاه ذلك الملف يكفي، وهو إعلان كلامي محض. الأسوأ أن تلك الغرفة تتجاهل عن سابق إصرار أن ما تسحقه قواتها وميليشياتها على الأرض السورية من جماجم السوريين، ما هو إلا من نفس نسيج إخوتهم الفلسطينيين، كيف يمكن تمرير ذلك على العقل الفطن، وهمُ الدفاع عن الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه سحق إخوة لهم في سوريا بأيدٍ إيرانية أو ميليشيات تابعة لها.
ما تقدم هو غيض من فيض من ملفات المشروع الإيراني المتناقض الذي يقف معترضًا لأي تقدم عربي أو مطالبة بظهور أوطان عربية حرة ومدنية وديمقراطية، غرفة العمليات في طهران لن تسمح بذلك في الوقت المنظور وأمام المتغيرات الحادثة. كلما أسرعنا في فهم ذلك، وتجاوزنا التكتيكات الإيرانية إلى المشروع الأساسي، قربنا إلى مكان نفهم فيه جميعًا أن الأنفاق المظلمة في الشرق الأوسط مسدودة، لأن القضية برمتها تكمن في تحقيق حرية للشعوب الإيرانية من تسلط غرفة العمليات في طهران التي تسمى (ولاية الفقيه)!
آخر الكلام:
ولاية الفقيه تخرج الإنسان من إنسانيته واحتمال محاسبته على أفعاله إلى الكهنوتية القرن أوسطية التي تطاع!