الخطاب الذي لن يلقيه ميشال عون


يا شعب لبنان العظيم،

أعترف أمام الله وأمامكم أنني لم أنصت حين وجب علي الإنصات كأب لجميع اللبنانيين. أخذتني العزة بالاثم يوم قرّرت أن اتجاهل صرخاتكم في الشوارع وأنتم تصدحون بحناجر شابة ومجروحة وغاضبة بأغنية “هيلا هيلا هو”..

لقد كان هذا الشعار جارحاً جداً، وأنا أرى أحفادي يتألمون لألم أبيهم وجدتهم لأبيهم، وهي تهان بهذه الشكل العلني واليومي.

لم أحاول أن أفهم لماذا تحمّلون صهري ورئيس حزبي، جبران باسيل، مسؤولية ما آل إليه الوضع اللبناني العام الناجم عن ثلاثين عاماً من سياسات محدّدة وخيارات بعينها.

لم أفهم رسالتكم قبلها يوم أسقطتموه في الإنتخابات البلدية والنيابية غير مرة. حملني خليط العاطفة والغرور والعناد لفرضه عليكم وزيراً ملكاً في وزارات حيوية لم تنتج طوال عهوده أيّ تحسّن حقيقي في الخدمات. تماماً كم فرضته رئيساً على أبناء القضية، الرفاق الشرفاء في التيار الوطني الحرّ، بقوة المصاهرة لا بقوة الحضور المعنوي والسياسي والقيادي.

لم أفهم حاجتكم للتغيير، لا سيما بعد زلزال انفجار المرفأ، الذي دمّر ثلث بيروت وشطب إلى أجل غير مسمى، دور العاصمة على حوض المتوسط، عدا عن مأساة الموت والاصابة التي طالت آلاف اللبنانيين.

لم أحاول أن أفهم لماذا تحمّلون صهري ورئيس حزبي، جبران باسيل، مسؤولية ما آل إليه الوضع اللبناني العام الناجم عن ثلاثين عاماً من سياسات محدّدة وخيارات بعينها

أغمضت عينيي عن استمرار الطبقة السياسية كلها، ورئيس حزبي منهم وفيهم، بالأداء السياسي نفسه، الذي يعلي المحاصصة النتنة على مصالح المواطنين والمكسب الخاص على الخير العام، والقعود على الثروات الشخصية في مقابل التفريط بالأمة ومقدّراتها ومستقبلها.

لقد وعدتكم بأن أسلّم الرئيس الذي من بعدي لبناناً أفضل مما استلمت من سلفي. لكن هيهات أن يعينني ما بقي في عمر الولاية وعمري على الوفاء بالوعد.

يا شعب لبنان العظيم،

لقد رأيتموني، في فيديو مسرّب، أمشي متثاقلاً في حديقة القصر، الذي قاتلت سنوات لأكون ساكنه الأول وصاحب الأمر فيه ومنه. لم يرحم بعضكم ضعف همّتي أو كبر سني. لكنني أصارحكم أنّ ذلك لم يكن ما آذاني، إنما ما نبّهتني قسوتكم إليه.  

تأكلني المرارة ويخنقني الندم ليس على ما فعلت، بل على الكثير الكثير مما لم أفعل، وهذا مصاب من تهديهم الحياة طول العمر،

وتحرمهم نعمة الإنجاز.   

تذكرت أنني لم أتجاهل صرخاتكم وحسب. بل لم اسمع حتى صرخات الاعتراض التي كانت تنفجر بين الفينة والأخرى في أروقة بيتي الداخلي، خوفًا على سمو صورة الأب وحرصاً على نقاء ذكراه في نفوس وضمائر اللبنانيين، وكنت أحسب هذه الصرخات من ضروب الغيرة التي تعرفها كلّ البيوت.

أما بعد،

لعلكم تتساءلون الآن، بعد صدور العقوبات على صهري ورئيس حزبي جبران باسيل إن كان “بيّ الكل” سيستمر في النكران، متغافلاً عن ما اعتمده جبران من خطاب سياسي مدمّر لأسس الحياة السياسية والوطنية السليمة، وسلوكه الهوسي بالسلطة، وإمعانه في الكذب وخيانة أمانة المواطنين بقسوة وإصرار غير مسبوقين. وبعضكم يرى أنّ الامتحان الأسمى الذي سأفشل فيه حتمًا، هو اختياري الأكيد للتغطية على جبران بدل تحميله مسؤولية ما أوصل نفسه والبلاد إليه.

لا أخفيكم سراً أنّ عاطفتي تدفعني لحماية هذا القيادي الشاب، الذي أرى فيه شبابي، كما أرى فيه الابن الذي لم تمنّ علي الحياة بمثله. بعض الممالئين راهنوا أنّ جعبتي غنية بالمناورات الشعبوية التي تسمح لي بوضع العقوبات في سياق مؤامرة سياسية هدفها الضغط عليّ في ملف ترسيم الحدود مع إسرائيل!!

وهم محقون في تقديرهم أنّ إسرائيل ورقة توت كبيرة تغيب خلفها أكبر العورات. الأكثر خبثاً أشاروا عليي بأن أحمّل حزب الله جميل هذه العقوبات بما يتيح لي قبض ثمنها، بعد سنوات من وقوفي إلى جانبهم متحمّلاً مسؤوليتي الوطنية والاخلاقية.

أدهشني في البدء أن تردني مثل هذه الاقتراحات. ثم أطرقت مفكّراً ما الذي أقدمت عليه وأوصل صورتي وسمعتي إلى هذا المستوى من التفسير الانتهازي للكبيرة والصغيرة، من دون أدنى اعتبار لأيّ إرث وطني في تجربتي الممتدة على طول ثلثي قرن؟

لقد جاء في “سفر الأمثال”: كَرَاهَةُ الرَّبِّ شَفَتَا كَذِبٍ، أَمَّا الْعَامِلُونَ بِالصِّدْقِ فَرِضَاهُ.

لقد كذبنا ما يكفي على اللبنانيين، وتكاذبنا فيما بيننا لاقتسام مستقبلهم ومقدّراتهم، وآن لنا جميعًا أن ننظر بقلوبنا قبل أعيننا لمصائرهم التي يتهدّدها كلّ شرّ.

إنّ توريث لبنان للبنانيين أهم من توريث الرئاسة لجبران باسيل.

وكما جاء في “سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي”:

مَنْ يَغْلِبْ يَرِثْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَكُونُ لَهُ إِلهًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا. وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ، فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي.

لعلكم تتساءلون الآن، بعد صدور العقوبات على صهري ورئيس حزبي جبران باسيل إن كان “بيّ الكل” سيستمر في النكران، متغافلاً عن ما اعتمده جبران من خطاب سياسي مدمّر لأسس الحياة السياسية والوطنية السليمة

لا يذهب ظني إلى أنّ اللبنانيين يستحقون أن يكون نصيبهم بحيرة متقدة. فقلة الإيمان والرجس والكذب من أمارات السلطة وأهلها ما  أسقط البلاد في وكر البلاء.

يا شعب لبنان العظيم،

ثمّة من بلغ به جنون العظمة أن طلب مني مخاطبة واشنطن ومطالبتها بتوفير الأدلة التي أفضت إلى استنتاجات وزارة الخزانة الأميركية وقرارها بالعقوبات، متناسين أنني رئيس الجمهورية اللبنانية لا رئيس الجمهورية العونية. فكيف أسمح لنفسي بأن أطالب واشنطن بأدلة تطال صهري، لأنه صهري، في حين لم أقم بالمثل حين نالت عقوبات مماثلة من الوزيرين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل.

يسوؤني كثيراً أن تصل الحالة العونية إلى هذا المستوى من عدم تحمّل المسؤولية واستسهال التكاذب والتذاكي. ولم أعد أعرف على وجه التحديد كيف وصلت حال تيارنا النضر الواعد إلى هذا الدرك من الإسفاف السياسي وانعدام الحسّ بالمسؤولية الوطنية أو الشخصية. 

لن أطيل أكثر في هذه المكاشفة، التي أردتها شخصية، على الرغم من قناعتي أنني لست المسؤول الوحيد عن كلّ ما أصاب اللبنانيين، وإن كنت بين أصحاب المسؤولية الكبرى. 

إقرأ أيضاً: نهاية عهد… أو نهاية بلد

لقد تعهّدت أمامكم أن أترك الرئاسة إذا ما ثبت أنّ لأيّ فرد من عائلتي صلة بالفساد، وها هي العقوبات تطال اسم أقرب المقرّبين إلى عقلي وقلبي، وتصيبني بقدر ما تصيبه وأكثر. يعتصرني الألم لما آلت إليه تجربة هذا القيادي الشاب، وما زلت أراهن في قرارة نفسي أن يكون مظلوماً لا ظالما باغياً. بيد أنّ الأمر، في هذه اللحظة الوطنية، بات يتعدّى النطاق الشخصي لهذا المصاب، ويطال مستقبل أمة بكاملها تعيش على حافة اليأس. فالقرار بمواجهة العقوبات يعني ضمنًا قراراً بالمزيد من كشف لبنان واللبنانيين، وحرمانهم من حكومة قد يتسنّى لها النهوض بالحمل الثقيل. ويعني بين ما يعنيه إدخال البلاد في دوّامة جديدة من دوّامات إضاعة الوقت وهدر الإعمار ونزيف البشر.

إنّ كرامة أمة بكاملها أهم الآن من كرامتي الشخصية أو كرامة فريقي السياسي، أياً يكن تفسيري للعقوبات التي طالت جبران باسيل.

لقد قرّرت أن أتقدّم باستقالتي من رئاسة الجمهورية، ومغادرة الحياة السياسية أنا وجميع أفراد أسرتي، ما حييت، راجياً أن تكون هذه الاستقالة باباً يدخل منه ضوء الفرج للبنان واللبنانيين، وأن يشملني المواطنون بكريم نظرتهم وعظيم جميلهم.

عشتم وعاش لبنان.  

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…