شهادة من الميدان : أسعد اللحظات في رؤية نظرة الرضا في عيون الناس

20-03-2014 تحقيقات

لم يخطر ببالي حين دخلت إلى مكتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر المتواضع في بنائه وأثاثه في منطقة العبدلي بالعاصمة الأردنية عمان، أن أعمل لمدة تتعدى ما قضاه أقدم زملائي السابقين، ولم تتجاوز في حدها الأعلى عشرة أعوام ونيفاً.

رغم بعض الحزن الذي يعتريني بسبب انتهاء خدمتي لدى اللجنة الدولية فإنني أشعر ببالغ السعادة أن حققت في أكثر من ثلاثين عاما أهدافاً إنسانية نبيلة 

رغم بعض الحزن الذي يعتريني بسبب انتهاء خدمتي لدى اللجنة الدولية فإنني أشعر ببالغ السعادة أن حققت في أكثر من ثلاثين عاما أهدافاً إنسانية نبيلة
© ICRC

 في اليوم الأول لانضمامي إلى أسرة بعثة اللجنة الدولية في عمان والذي صادف الأول من حزيران/ يونيو من العام 1982، قال لي رئيس البعثة آنذاك إنني مكلف بالقيام بكل شيء. وفعلاً مارست لسنوات طويلة بعد ذلك، بالإضافة إلى عملي الأساسي في قسم البحث والحماية كل النشاطات التي اضطلعت بها اللجنة: الترجمة، قيادة سيارات اللجنة لأداء العمل الميداني، زيارة الأسر المستفيدة من خدمات اللجنة في مختلف مناطق الأردن وخصوصاً مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، إرسال واستقبال البرقيات من خلال أجهزة الراديو (اللاسلكي) والتي تطورت لاحقاً لتتم عبر أجهزة أخرى، وصولاً إلى استخدام الكمبيوتر في أواخر الثمانينيات، متابعة الصحف ووسائل الإعلام، وإعداد نشرة صحفية يومية يطلع عليها كل من يعنيه الأمر من طاقم اللجنة في عمان. بل تم تكليفي في وقت ما ولفترة محدودة، إلى جانب عملي، بمهمة أمين الصندوق لمتابعة بعض المعاملات المتعلقة بالمشتريات والجمارك مع الجهات المختصة. أذكر أنني تورطت في العمل الميداني سريعاً، وما إن انقضت بضعة أيام فقط على التحاقي بالعمل حتى نشبت حرب جديدة في الشرق الأوسط: غزو لجنوب لبنان، وتبعات إنسانية اضطلعت اللجنة الدولية خلالها بدورها في المساعدة والدعم بإعادة الأواصر العائلية وصيانتها، والبحث عن المفقودين من مدنيين ومعتقلين، وذلك في ضوء تدفق أعداد كبيرة من اللبنانيين على الأردن فراراً من الأوضاع غير المستقرة في بلدهم.ن فراراً من الأوضاع غير المستقرة في بلدهم.

 

توالت الأيام، وتطورت أساليب العمل وآلياته لمواكبة الأحداث المتسارعة والمسؤوليات الإنسانية الموازية لها. وبسبب الموقع الجغرافي الذي يتميز به الأردن، تدفق إليه أعداد كبيرة من القادمين من دول أخرى شهدت اضطرابات ونزاعات مسلحة، وخصوصاً بعد بداية الحرب العراقية الايرانية (حرب الخليج الأولى 1980 - 1988)،  وحرب الخليج الثانية (بين العراق والكويت والتحالف الدولي بدءًا من 1990)، والأحداث المتسارعة في الأراضي المحتلة نتيجة لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (نهايات عام 1989)، مروراً بالانتفاضة الفلسطينية الثانية (نهايات أيلول/ سبتمبر 2000)، ثم الحرب على العراق في العام 2003 وتبعاتها،  ووصولاً إلى الإضطرابات في سورية بدءًا من العام 2011 وحتى الآن.

 

31 عاماً انقضت تتابع فيها على بعثة اللجنة الدولية في عمان 16 رئيساً للبعثة تراوحت مدد مهماتهم ما بين بضعة أشهر وبضع سنوات، بالإضافة إلى مئات من المندوبين من جنسيات مختلفة والعاملين المحليين. وخلال تلك الأعوام، مررت بمحطات مختلفة، ومواقف لا تعد، قابلت آلاف الأشخاص جلهم من طالبي الحصول على خدمات اللجنة الدولية إما لأنفسهم، أو لأقاربهم السجناء أو المدنيين في مناطق النزاعات المختلفة. وتظل أسعد اللحظات عبر هذه السنين هي النجاح في تقديم الخدمة المطلوبة ونظرة الرضا في عيون الناس ودعواتهم الصادقة. أما أصعب المواقف، فهي عندما كنت أعجز عن تقديم الخدمة المطلوبة لأنها ليست  ضمن معايير اللجنة الدولية، ولا ضمن التفويض الذي تعمل اللجنة الدولية في إطاره. فكثير من الناس شجعتهم أبواب البعثة المفتوحة دائماً على طرقها أملاً في العثور على حل لمشكلة تواجههم، وكان أغلبها حالات اجتماعية أو اقتصادية.

وعلى رأس قائمة اللحظات السعيدة الناجحة ما شاهدته في إطار برنامج تنظيم الزيارات الجماعية لأهالي السجناء الأردنيين والعرب إلى ذويهم في السجون الإسرائيلية، فقد كانوا يعودون من الزيارات، رغم فراقهم لأحبائهم، تغمر وجوههم الفرحة وتلهج ألسنتهم بالامتنان لهذه الخدمة الجليلة التي لم تكن لتتاح لهم لولا اللجنة الدولية. ومن ذكرياتي السعيدة أيضا العثور على قريب مفقود كان ذووه قد فقدوا الأمل في العثور عليه، بل في الحصول على أي خبر عن مصيره.

رغم بعض الحزن الذي يعتريني بسبب انتهاء خدمتي لدى اللجنة الدولية فإنني أشعر ببالغ السعادة أن حققت في أكثر من ثلاثين عاما أهدافاً إنسانية نبيلة سأظل أحمل نبضها في داخلي ما حييت. ولعل شعوري الآن أنني لم أترك اللجنة الدولية ولن أتركها إلا إذا تخليت عن بضعة مني.

كتبه: عبد الكريم عبدالكريم الهندي، موظف سابق ببعثة اللجنة الدولية – عمان

 

تم نشر هذا النص في العدد رقم 56، شتاء 2014، من مجلة "الإنساني"، التي تصدر  فصلياً عن مركز الإعلام الإقليمي بالقاهرة – اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والأراء الواردة به لا تعبر إلا عن وجهة نظر أصحابها، الذين سبق لهم -ومن يهمهم الأمر- الموافقة على نشرها.