الجدل حول دور الإسلام في السياسة ومضامين الدساتير الجديدة أكبر تجليات مقتل بلعيد

تونس.. صراع داخل حضارة في زمــن «الربيع»

اغتيال شكري بلعيد أثار موجة من التظاهرات ضد حركة النهضة. إي.بي.إيه

كان المعارض التونسي، شكري بلعيد، ناقداً شجاعاً للنظام الشمولي للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، الذي حكم تونس لنحو ربع قرن حتى انطلاق الثورة في يناير ‬2011. وكان أيضاً قائد الجناح اليساري في الحركة الديمقراطية الوطنية، كما ظهر كأنه خصم شرس لحركة النهضة، وهي الحزب الإسلامي المعتدل الذي شكل ائتلافاً مع حزبين علمانيين، لكن بلعيد كان غير مقتنع بهذه الخطوة أو أن وعود النهضة يمكن أن تؤدي إلى اسلام معتدل وتعددية. وشكك في صدق النهضة بشأن الديمقراطية والتسامح، وأشار إلى أنها إما عاجزة عن لجم السلفيين التونسيين المتطرفين، أو أنها متعاطفة معهم، على الرغم من أنهم يستخدمون أسلوب الترهيب والعنف من أجل تحقيق رؤيتهم المتمثلة في ايجاد مجتمع اسلامي صرف، حيث تراوح أهدافهم ما بين المعارض الفنية، والمنشآت التي تبيع الخمور، والجامعة.

ونظراً إلى انتقادات بلعيد اللاذعة واجه العديد من التهديدات بالموت، كما أنه أعرب عن قلقه علناً على سلامته. واتهمت أرملته والمقربون منه الحكومة بأنها فشلت في حمايته، وألقت باللوم على حركة النهضة بضورة خاصة. وذهب بعض النقاد إلى أبعد من ذلك عندما أصروا على أن النهضة كانت مشاركة في قتل بلعيد. وإثر مقتل بلعيد وخلال جنازته جرت تظاهرات حاشدة، واندلعت اشتباكات بين الشرطة والمحتجين والمضربين. ولم تقتصر هذه الحشود على تونس العاصمة وإنما امتدت إلى المدن الأخرى.

الصراع ضمن المجتمعات العربية

أحد أكبر تجليات مقتل بلعيد كان الجدل الذي يظهر على العلن كلما طرح دور الإسلام في السياسة، ومضامين الدساتير الجديدة، ودور النساء في السياسة والمجتمع، وسياسة التعليم، ووضع السكان من غير المسلمين وبيع المشروبات الكحولية.

وكان الراحل صامويل هنتنغتون قد قدم كتابه «صراع الحضارات» نموذجاً من أجل فهم مرحلة فترة ما بعد الحرب الباردة، لكن ما نشهده في العالم العربي، منذ موجات الثورات الأخيرة، كان دائماً صراعاً ضمن حضارة واحدة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بوضع الإسلام في السياسة. وكانت الأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى السلطة في تونس ومصر، نتيجة «الربيع العربي»، تريد أن يكون النظام السياسي الجديد منسجماً تماماً مع عقيدتها، لكن هذا المشروع واجه الرفض ليس من قبل الديمقراطيين الليبراليين، والاشتراكيين، والأقليات من غير المسلمين، التي تبغض هذا المشروع، وانما من الجماعات الإسلامية الأخرى، خصوصاً السلفيين الذين انتقدوا «النهضة»، و«الإخوان المسلمين» الذين يحكمون في مصر، لعدم تمسكهما بالشريعة كما ينبغي.

وبناء عليه فإن الصراع بشأن مكانة الدين في السياسة، أدى الى الانقسام وليس إلى وحدة المسلمين في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وعادة ما يتم تصوير هذا الانقسام على أنه صراع بين العلمانيين والإسلاميين، وهذا خطأ كبير لأن المعسكر الأول يتضمن مسلمين يتسمون بالتقوى، ولكنهم يريدون أن يضعوا حاجزاً ما بين دينهم والسياسة. وبصورة مماثلة فإن الطوائف المسيحية، والإسلامية، كالصوفيين على سبيل المثال، يهتمون بدينهم على نحو كبير، إلا أنهم لا يريدون الانخراط في السياسة.

وتعرضت الأحزاب الإسلامية الحاكمة للانقسام بحد ذاتها نتيجة الجدل بشأن الإسلام والسياسة. وعندما تعرضت حركة النهضة للانتقادات الشديدة إثر مقتل بلعيد، اقترح رئيس الحكومة، حمادي الجبالي، تعيين حكومة مؤلفة من الكفاءات، بهدف تهدئة الغاضبين عن طريق إبعاد الجدل الدائر بشأن الإسلام والسياسة. ولكن كما رأى العديد من أعضاء النهضة، فإنه ليس الوقت المناسب للانخراط في السياسية. وحققت «النهضة» المرتبة الأولى في انتخابات عام ‬2011، استناداً إلى اجندة سياسية إسلامية، ولهذا فإن الانسحاب تحت الضغوط التي تمارس ضدها غير مقبول. ورفض أعضاء مجلس الوزراء، الذين ينتمون إلى «النهضة» التخلي عن مناصبهم، وواجه الجبالي ثورة من قبل أعضاء حزبه، الذين احتشدوا أمام مكتبه احتجاجاً على خطته، ومما أضيف إلى الفوضى الناجمة، دعم نائب رئيس النهضة، عبدالفتاح مورو، الى خطة الجبالي، ودعا الى استقالة رئيس الحزب راشد الغنوشي، كما أن رئيس الحكومة الجبالي الذي هدد بالاستقالة الأسبوع الماضي، نفذ تهديده فعلاً واستقال بعد ذلك.

وفي سورية وصل الصراع داخل الحضارة الواحدة إلى وضع مرعب، حيث اندلع قتال بين جماعة النظام والمتمردين على أساس طائفي. ولايزال النظام قائماً بسبب عدم إعلان العديد من السوريين عن موقفهم والبقاء على الحياد، أو إنهم دعموا النظام.

وحتى الآن فإن الأمر الذي يجمع المعارضة السورية هو الاتفاق على تدمير النظام، لكن الخلاف على النظام البديل في دولة ما بعد سقوط الأسد قد ظهر من الآن.

التعبئة في مواجهة المؤسسات

وتمثل التوجه الثاني التي تركزت عليه الأضواء نتيجة مقتل شكري بلعيد، و«الربيع العربي» بصورة عامة، في انعدام التوازن بين التعبئة الاجتماعية، وهي الحرية التي وجدها الشعب حديثاً لممارسة السياسة والمؤسسات السياسية، أي التركيبات السياسية الجديدة التي تناضل من أجل اكتساب الشرعية، وتقديم أماكن لحل المشكلات السياسية، والحفاظ على النظام العام.

وهذه السمة السياسية تحدث عنها على نحو صائب هنتنغتون في كتابه «أثر النظام السياسي في تغيير المجتمعات» الذي لم يحظ بشهرة كتاب صراع الحضارات، إلا أنه افضل منه بكثير.

وتبدو نتائج انعدام التوازن في الأنظمة السياسية الصاعدة، التي وصفها هنتنغتون، جلية تماماً في تونس ومصر.

ويجب على المؤسسات الصاعدة أن تعمل على تدبر أمور المواطنين الذين يتحلون بالحماسة ويفتقرون إلى الصبر.

وأما الأحزاب المعارضة التي كانت هامشية أو محظورة، أو أن قادتها يقبعون في السجون، فإنها تصل الى السلطة لتجد نفسها قد تحولت إلى المؤسسة التي لا تحظى بثقة الشعب، مع وجود فارق وحيد يتمثل في أن سياسة ما بعد الإطاحة بالديكتاتور تجعل انعدام الثقة العام يتحول بسهولة الى تعبئة عامة.

لكن في ليبيا تبدو التعبئة الاجتماعية في مواجهة ديناميكية المؤسسة الاجتماعية مرئية في شكلها الأكثر وضوحاً. وتكافح الحكومة الضعيفة لتأمين الاستقرار الأساسي.

وتكون المؤسسات السياسية ضعيفة والعديد من الميليشيات المشكّلة من المقاتلين، الذين حاربوا العقيد معمر القذافي، أصبحوا الآن يفرضون القانون بأنفسهم. ولا تشترك هذه الميليشيات في أجندة واحدة، وتمنع الجميع من إبداء أي اهتمام لتوجيهات الحكومة المركزية قدر الإمكان، وهذا من شأنه أن يفاقم من حالة الفوضى. ولذلك فإن المركز يكون في حالة ضعف كبيرة حيث يكون غالباً معتمداً على واحدة من هذه الميليشيات، لحماية نفسه من الآخرين، لكن هذا الأمر ينطوي على نتيجتين ضارتين: الأولى ان الدولة أصبحت معتمدة على الميليشيات، والثانية أن العنف سيتواصل بين الميليشيات. وكان الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، في ‬11 سبتمبر الماضي، ومقتل القنصل، كريستوفر ستيفنز، مثالاً ساطعاً على ضعف مؤسسات الدولة الليبية في مواجهة التعبئة الاجتماعية.

تويتر