علاقة البشر بالأشياء ترصدها مجموعته الأخيرة

عزت القمحاوي: لست كاتباً جماهيرياً

الكاتب المصري عزت القمحاوي

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكد الروائي عزت القمحاوي أنه لا يضع الجمهور نصب عينيه حينما يبدع، معترفاً بأنه ليس كاتباً جماهيرياً، ومن ثم لا يقيد إبداعه وفق أهواء ومتطلبات السوق، وأكد في الوقت ذاته التأثير المكاني والزماني على الكتابة، مشدداً على ضرورة أهمية تنويع موضوعات المبدع وتيماته ولغاته ولو حدث هذا رغماً عنه.

وفي حواره مع «البيان» شبَّه الروائي بأنه صانع صغير يجب ألا يتورط في كراهية شخصياته. كما تطرق الروائي الحائز على جائزة نجيب محفوظ إلى الحديث عن مجموعته الأخيرة «السماء على نحو وشيك» وعديد من التفاصيل في تجربته الإبداعية، نتعرف إليها في سياق الحوار التالي:

بداية.. ما هو الدافع إلى كتابة مجموعتك الأخيرة «السماء على نحو وشيك» وسبب عودتك إلى كتابة القصة القصيرة الآن؟ لا نستطيع أن نتحدث عن دافع فيما يتعلق بالإبداع، إنما الروح تذهب إلى المكان الذي تحبه، وروحي في هذه الفترة طلبت القصة القصيرة، فالكاتب يطلب الحياة، حيث يستطيع الإنسان عندما يضيق عليه المكان أن يقضي الليلة على كرسي.

إيقاع الحياة بالنسبة إليّ يدفعني إلى القصة القصيرة؛ لأن النص الروائي مركب ويحتاج إلى وقت طويل، وبما أنني لا أكف عن الكتابة فروحي تعدل نفسها وتدخل إلى جنس أدبي كما يستطيع الإنسان أن يعدل جسده مع أريكة سيقضي عليها ليلته، وفي وقت الانشغال ومحاولة فهم قطاع الثقافة والدفع به إلى الأمام توالدت أفكار قصص هذه المجموعة.

متطلبات السوق

ألم تقلقك عودتك إلى القصة القصيرة؛ لاسيما لأنها لم تعد النوع الأكثر جماهيرية الآن؟

في الحقيقة أنا لست كاتباً جماهيرياً، فالجماهير ليست محط الاهتمام بالنسبة إلى كتاباتي، فلا أكتب حسب متطلبات السوق، إنما حسب متطلبات روحي، فعندما بدأت الكتابة كنت أعرف أنني قد لا أجد ناشراً، لكن هذه القصص ألحت عليّ، وكنت سعيداً أثناء الكتابة؛ إذ إنها انسجمت مع إيقاع حياتي السريع الآن.

تمزجُ في أعمالك بين مهنية الصحافة وحرفية المبدع. فماذا أضافت المهنة إلى لغتك الإبداعية؟

العلاقة بين الصحافة والأدب صداقة لدودة أو عداوة حميمة، ففيها الحب والكره؛ إذ إن دراسة الإعلام والعمل في الصحافة يفيدان الكاتب في أن يتعلم الاختصار، حيث المساحات محدودة، ولكنها خطرة من زاويتين: من زاوية التسطيح التي يمكنها أن تقود الكاتب إلى نص أدبي خفيف..

حيث تتسم اللغة في الصحافة بالطرق السريعة بينما يعشق الأدب الحواري والالتفاتات، فيجب أن أكتب الجملة في الصحافة لكي تصل إلى الشكل الذي أقصده، لكن في الأدب يجب ألا تصل إلى القارئ؛ بل يجب أن يتلقاها كل قارئ بشكل مختلف، فقارئ الأدب شريك في النص، وهذه الشراكة أشبهها بلعبة «الاستغماية»، متعتها تكمن في الالتفاف والاختباء.

وفي المقابل، يمكن أن تؤذي الصحافة الأدب من باب آخر؛ إذ إنها تحتاج إلى دفع الإنسان إلى خارج روحه؛ من هذا الباب أرى أن سلبيات الصحافة على الأديب أكثر من إيجابياتها، وأُشبِّه الكاتب الروائي الذي يعمل في الصحافة بـ«راكب النمر»، فإما أن يكون فوق ظهره أو بين فكيه؛ أي يجب أن يحافظ على توازنه.

إخلاص صحفي

مازلتَ مخلصاً للمقالات الصحافية إلى جانب إبداعاتك الأدبية، كيف تستطيع الحفاظ على هذا الشغف والالتزام نحو الصحافة؟

تقريباً بدأتُ الكتابة في الصحافة من نهاية السلم، فقد بدأت بأعمال الديسك والإخراج الصحفي، ويوماً بيوم صرت أكتب المقالات، ويمكنكِ أن تقولي إنني كتبت المقالات قبل الالتحاق بكلية الإعلام، وأصبحت كتابة المقالات نوعاً من الالتزام؛ إذ إنني لست سعيداً بما أكتبه في الصحافة، ولكنني سعيد أنني أؤدي واجباً، فهذا الحرص أعتبره دوري الآني، وفي نفس الوقت يجب أن يكون محدود الوقت.

أما كيف أحافظ على توازني، فمن خلال عدم الفرح بالنجاحات الصحافية. وعن نفسي، آخذ المبادرة بتحجيم دوري داخل المؤسسات الصحافية، ودائماً لا أسعى إلى أن أكون في بؤرة العمل الصحفي، بل أحافظ على مسافة لي وحد معين من العزلة ووقت الفراغ؛ لأن هذا هو الاحتياج الأساسي للأدب.

فكرة ملتبسة

علمتُ أنك لا تضع نفسك ضمن جيل معين. لماذا؟

فكرة الجيل في مصر ملتبسة للغاية، فبالصدفة من كان يرعى جيل من كتبوا معي هو إدوارد الخراط، ومع ذلك لم يذكرني أحد ضمن هذا التصنيف، وكنت سعيداً بهذا التجاهل حتى أبني عالمي بشكل خاص.

ولي رأي في موضوع الجيل، فالكتابة تكون ابنة حقبة معينة، وليست ابنة جيل أو عمر معين للكاتب؛ فمثلًا كاتب في السبعين وآخر في الثلاثين يمكن أن يستجيبا لإيقاع لحظة التسعينات بشكل يختلف عن استجابتهما للحظة العام الحالي، الكتابة يؤثر فيها الزمان والمكان..

فعندما أكتب نصًا في بيئة معينة يخرج بشكل معين، والزمان أيضًا مؤثر؛ لذا لا أعول على فكرة الأجيال بمعنى التقارب في السن، إنما المجايلة تلك التي يمكن أن يشترك فيها كاتب مسن وآخر شاب.

جوهر الإبداع

كل عمل إبداعي لك شكَّل نقلة نوعية جديدة. فهل قصدت بالفعل الانطلاق في كل عمل من نقطة جديدة تماماً لم تتطرق إليها في عملك السابق؟

لا يمكن للكاتب أن يكرر نفسه أو ما أبدعه غيره، الكاتب يجب أن يكون عدة كُتّاب؛ لأن جوهر الفكر هو «ماذا تقول؟!»، وجوهر الإبداع هو «كيف تقول؟!»، ولا يمكن أن أقول نفس الشيء في أعمالي؛ إنما أقولها بصيغ وطرق مختلفة، وحتى بلغات مختلفة، ويجب على الكاتب الروائي أن ينوع موضوعاته وتيماته ولغاته حتى ولو رغماً عنه.

في «مدينة اللذة» كتبت عن عالم صامت، هذا الصمت يفرض على اللغة أن تكون أقرب إلى الشعر، وفي حجم الكتاب بأن يكون صغيراً، لكن في رواية «بيت الديب» التي أرّخت حياة عائلة كاملة احتاج الكتاب مساحة أكبر ولغة مختلفة، ومع تنوع هذه المستويات يظل هناك اهتمام يلح على الكاتب..

فالفارق بين الأدب الذي يعيش والذي يُكتب ليُقرأ -كالموضوع الصحفي- هو وجود سؤال وراء هذه الكتابات، وقليل من يمتلك سؤالًا؛ إذ لا يصنع السرد وحده كتابة، وغالباً هو سؤال واحد عند الكاتب، فأنا طوال الوقت أدور حول فكرة «الخوف من الموت والحرية وتفكيك منظومة القهر»، كتبتها في الرواية والقصة والنص المفتوح، وذلك بتنوعات مختلفة.

قلتَ سابقاً إنك لم تكتب إلا عمن تحبهم. فهل يعني هذا أن الكاتب لا بد أن يتورط عاطفياً مع كل أبطاله حتى لو كانوا على درجة كبيرة من السوء؟

لا بد من التعاطف، أو على الأقل الحياد؛ فالروائي يصنع واقعاً موازياً للحياة أو منظومة حياة كاملة، فهذا الصانع الصغير يجب ألا يتورط في كراهية شخصياته، بل يلتمس لهم الأعذار، وأنا ألجأ إلى حيل معينة حتى لا أكره شخصية من شخصياتي.

وأعطي أحد الأبطال اسم صديق، ثم بعد الانتهاء أغير اسمه، وهذا ما فعلته في رواية «الحارس» بالفعل، إلا أنني غيرت اسمه في الكتابة الثانية وصار اسمه «وحيد»، حيث كان الوحيد الذي يمتلك اسماً بين الحراس.

وهل تحب داخل أعمالك أن تضع دلالات ما تعنيها أسماء الشخصيات؟

ليس دائماً. فقط فعلته في رواية «غرفة ترى النيل» وبطلها روائي لم ينشر شيئاً، لأنه ممسوس بفكرة الكمال التي أصابته برهاب الكتابة، وقد أسميته «عيسى»، ورسمته في صورة الشخص شديد السلام بلا أعداء، وكذا فعلت مع البطل «وحيد» في رواية الحارس كما سبق وقلت.

كتبتَ في وطنك وكتبتَ خارجه.. فما الفارق بين طبيعة الكتابتين لدى الروائي من وجهة نظرك؟

المكان يكتب معنا، فلمصر إيقاع صاخب، بينما في منطقة الخليج المكان ضاغط على شخصياته، حيث إنه ضاغط على أبنائه وعلى الوافدين إليه، لذا كانت الكتابة التي كتبتها في الخليج مختزلة جداً، والصمت واضح فيها، ودور البطولة للمكان وليس الشخصيات.

«السماء على نحو وشيك».. علاقة البشر بالأشياءوفسيـفساء التغيير

تتضمن المجموعة القصصية «السماء على نحو وشيك» لعزت القمحاوي، الصادرة ضمن مشروع بتانة الثقافي، ثماني قصص هي:

«شكر الله سعيك» عن الغلام الذي يموت أبوه، راصداً نتائج هذا الموت. ثم «الموقد»، وهي قصة عن عجوز وعلاقتها بأدوات المطبخ التي تغيرت تبعاً للسن، و«الخريف» التي تروي قصة سائق تاكسي تغيرت علاقته بالركاب بعد العمر والخبرة، وصارت جملة واحدة فقط مهددة ومؤرقة في قولها بالنسبة إليه.

المجموعة القصصية للقمحاوي تُعنى برصد تهديد ما، ورغم أن اسمها لا يدخل ضمن أي من أسماء قصصها؛ إلا أنها ترتبط بها تمام الارتباط، فالمجموعة تحمل تيمة ثابتة، وكأن هناك سماء تهدد في كل القصص، وهناك الموت، وهناك الشيخوخة، وتداعي الجسد، وكذلك علاقة حب بين اثنين مختلفين في الأعمار، وهذا يهدد بقاءهما معاً، فهناك دائماً تهديد في أجواء القصة.

إلى جانب التهديد، فالقمحاوي يرصد علاقة البشر بالأشياء، والتي غالباً ما يعتريها التغيير، سواء الأب الذي يختبر علاقته الجديدة بالموت بعد وفاة ابنه، أو تغيير علاقة السائق بالركاب أو علاقة الزوجين التي أصابها الفتور بعد مضي السنوات، وغيرها من أنواع التغيير المفاجئة، أو التي كان لها تبعات ولكن أحداً لم يكن يحفل بها.

إذاً فهي الأشياء التي نراها من جديد رغم أنها كانت أمامنا طوال الوقت، نراها بعين أخرى، نتغير كلياً فتتغير ردود أفعالنا وكأننا آخرين، رأى القمحاوي كل هذا وأراد رصده، وهو ما أجاده بالفعل من خلال قصصه تلك.

كما تتضمن المجموعة القصصية أيضاً قصة «الغبار» التي تحكي عن كاتب كهل لم يلق التقدير اللازم فصار وحيداً يستفزه الغبار كما تستفزه الكتابة، وقصة «وحدهما» التي يرصد داخلها تغير العمر والهرم الذي يزحف على الإنسان دون رغبة منه، و«عتمة صباحية» التي تحكي عن علاقة شخص بيمامة حطت على منزله..

و«مقعد في الحديقة» التي ترصد أزمة الحب بين حبيبين يختلفان في العمر وتحوم حولهما أزمات عدة، وأخيراً قصة «عزيزنا الضيف» عن مسافر مقيم في فندق، راصداً الخلاف الذي حل عليه في عمره هذا عن شبابه من خلال أيام مكوثه.

رصد

استطاع القمحاوي التعبير بصدق عن النفوس البشرية المختلفة، محولاً كل المشاعر التي تعتمل النفوس إلى تصرفات محسوسة على أرض الواقع، ليقدم الأسباب والنتائج، وهو ما يفسر كثيراً من الأشياء التي ربما كنا نراها ونتركها دون تفسير، مستطيعاً رصد دقائق الأمور بخفة دون أن يشعر القارئ بملل، وهو الأمر الذي يحول القصة إلى واقع وكأنه مرئي! في الوقت نفسه قرر الكاتب ألا يسمي أبطاله، كذلك ألا يحدد لهم أماكن محددة؛ كي يجعل كل ما نراه أمامنا قابلاً للتأويل .

Email