لا يمكن أن يُترك شعب العراق نهبًا للمعاناة

26 آيار/مايو 2015
لا يمكن أن يُترك شعب العراق نهبًا للمعاناة
©Reuters

لنعلنها صراحةً: هذا النزاع لا تلوح له نهايةٌ في الأفق. مقال بقلم السيد "دومينيك ستيلهارت"، مدير العمليات في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، نشر على The Independent في 22 أيار/مايو 2015.

في عالم مُزدحمٍ يموج بالتعقيدات، نحاول تلقائيًا تبسيط الأشياء، ذلك أن ضيق الوقت يضطرنا لذلك. ولهذا فإننا نشاهد أخبار العالم ونستمع إليها، ثم نلخّص ما استقبلناه في أذهاننا قبل أن نستغرق في تدبره. مُغفلين دقائق الأمور، ومتجاهلين التفاصيل، لنخرج في النهاية بصيغة مختزلة للحقيقة، صحيح أنها غير مُرضية، ولكنها، على الأقل، مُستساغة.

ولكي نبدأ بحل المشكلات، علينا أن نبدأ برعاية المتضررين، مهما كانت انتماءاتهم...

لنتأمل حال العراق على سبيل المثال، لقد عدت للتو من زيارة استغرقت خمسة أيام، قد يبدو مشهد النزاع هناك بالنسبة للكثيرين بهذه البساطة: صراع أحادي البُعد بين مقاتلي الدولة الإسلامية من طرف، وتحالف القوى المعارضة لهم على الطرف الآخر. لكن إذا ما سبرنا أغوار ذلك المشهد، سنجد وراءه من المشكلات وأشكال المعاناة ما يندى لها الجبين.

زُرت مُخيّمًا للنازحين داخليًا على الحدود بين بغداد ومحافظة الأنبار، الناس هناك لا يملكون سوى الملابس التي عليهم. وهم يعيشون في خيام، لا توجد هناك أي مراحيض أو مرافق للرعاية الصحية، بل ليس لديهم مياه. وبالطبع لا مجال هنا للسؤال عن تعليم للأطفال، ولا شيء يقيهم حرارة الشمس الملتهبة.

"دومينيك ستيلهارت" في زيارة لمخيم للنازحين داخليًا على الحدود بين بغداد ومحافظة الأنبار

داخل إحدى الخيام، قابلت أسرةً لديها طفلة وُلدت حديثًا، كانت الطفلة على الأرض لا تنقطع عن البكاء طلبًا لأمها. داخل هذه الخيمة التي استحالت قطعةً من الجحيم من وَقْع الشمس، كانت أجواء البؤس تخيم بظلالها الثقيلة. كانت تلك حالة أسرة واحدة من بين آلافٍ مؤلفةٍ يعيشون في مُخيّماتٍ مؤقتةٍ مماثلةٍ على الحدود الفاصلة بين بغداد ومحافظة الأنبار. لا أحد يعلم عددهم على وجه التحديد.

جدير بالذكر أن الكثير ممن يعيشون في تلك المخيمات نزحوا للمرة الثانية أو الثالثة، ولا يمكنهم العودة إلى مدينة الرمادي بسبب القتال الدائر هناك. وكانوا قد فروا من بغداد التي لجؤوا إليها في البداية حيث هُددوا بالقتل، وقد أخبرتني امرأة أن زوجها وابنيها قُتلوا في العاصمة العراقية. كما لا يمكنهم النزوح إلى المُدن المُجاورة لأنهم قد يتعرضون للهجوم، من أناس مختلفين، ولأسباب مُختلفة، وفي أوقات مُختلفة. ليظل هؤلاء النازحون عالقين في "منطقة مُحرّمة" بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.

في شمال البلاد بالقرب من كركوك، وعلى بعد بضعة كيلومترات من المعارك، زرت ثلاث قرىً في منطقةٍ غنيةٍ بالنفط والأراضي الزراعية. لم توجد بناية واحدة في القرى الثلاث، باستثناء المساجد، إلا سويت بالأرض. كان سكان القرى النازحون قد بدؤوا في العودة شيئًا فشيئًا، غير أنهم كانوا يقيمون في خيامٍ نُصبت بجوار منازلهم المُدمَّرة، ليبدؤوا من جديد في بناء حياتهم ومنازلهم، لبنةً لبنةً.

إن ما دفعني إلى استحضار هذه الصور التي توجز حال العراق في يومنا هذا حقيقة أننا أمام لوحة تتشابك فيها ضراوة النزاع مع شدة المعاناة. لقد كابد العراق في بقاعٍ مختلفة، ولأسباب مُختلفة، شتى ألوان المعاناة على مدار عقود لم تنطفئ خلالها نار الحرب، والتدخل الأجنبي، والاقتتال الداخلي، والنزاع بين السنة والشيعة والأكراد، جعلت البلاد تئن تحت وطأة العنف والانفلات الأمني، فضلًا عن فقد مئات الآلاف بسبب النزاعات المُسلّحة المختلفة التي شهدتها البلاد إلى يومنا هذا.

لنكن صرحاء؛ لا يمكننا أن نحلم بحلٍّ سريعٍ لهذا الوضع، فوتيرة القتال الدائر هناك مستمرة بلا هوادة، وخلال الأشهر القليلة الماضية شهدت الأوضاع الإنسانية في العراق تدهورًا كبيرًا نتيجة تصاعد حدة القتال. ففي بداية عام 2014، بلغ عدد النازحين داخل العراق 30000 شخص، في حين ارتفع هذا العدد ليصل إلى 2.7 مليون نازحٍ في يومنا هذا. الأوضاع تسوء فعلًا يومًا بعد يوم، ولا تلوح في الأفق أي بوادر لانتهاء النزاع.

على خلفية هذا الوضع، أطلقنا في اللجنة الدولية للصليب الأحمر مناشدة لجمع المزيد من الأموال للتعامل مع الأوضاع الإنسانية المتردية بشدة. زملاؤنا في الميدان يبذلون جهدًا جبارًا بحق، ونحن من بين المنظمات القليلة جدًا التي استطاعت الوصول إلى عدد من المناطق التي يكاد يستحيل الوصول إليها، والانطباع الذي يترسخ في الأذهان عنا دائمًا هو أننا محايدون ومستقلون وغير مُنحازين.

منذ بداية عام 2015، قدمت اللجنة الدولية للصليب الأحمر المواد الغذائية وغيرها من المستلزمات الأساسية الأخرى لأكثر من نصف مليون شخص في العراق، كما وزعت الإمدادات الطبية الضرورية على 45 مُنشأةً صحية في جميع ربوع البلاد، واستفاد ما يزيد على 400000 شخص من جهود اللجنة الدولية لتحسين توفير المياه. علاوة على ذلك، فنحن مستمرون في تنظيم زيارات للمحتجزين. وفي حال جمع المبالغ الإضافية المطلوبة، سيكون بإمكاننا تقديم المساعدة لما يقرب من 900000 شخص مُتضرر من النزاع.

لكن يبقى السؤال: لماذا كل هذا الاهتمام بالعراق؟ والجواب هو أن العراق شأنه شأن سورية، واليمن مؤخرًا، يُعدّ جزءًا حيويًا في المواجهة الكبرى التي تخوضها قوىً إقليمية ودولية، والتي تتسع رُقعتها تدريجيًا لتطوّق منطقة الشرق الأوسط برمّتها. ولا شك أن اللاعبين المحليين كل منهم يحاول استغلال الأوضاع لتنفيذ أجندات خاصة. ومرة أخرى، يظل المدنيون هم من يدفع الثمن باهظًا.

وفي ضوء ما سبق، فإن النزاع في العراق لا يمكن النظر إليه بوصفه شأناً داخليًا يمكن تركه يغلي على صفيح ساخن لسنوات دون أي تدخل (على الرغم من أن هذا ما حدث بالضبط بشكل أو بآخر). فما يحدث على أرض العراق له تداعيات محلية وإقليمية ودولية، والآلام والمعاناة التي يكابدها العراقيون في بلادهم تتردد أصداؤها في أرجاء المنطقة وما ورائها، ما يجعل الأمر يعنينا جميعًا.

وختامًا أقول إنه على الرغم من أن العراق يمثل قلب الأزمة، إلا أنه من الممكن أن يكون كذلك المخرج منها، فإذا ما جرى التوصل إلى حل للمشكلات التي يواجهها العراق، أو على الأقل إذا ما أمكن اتخاذ خطوةٍ إيجابيةٍ، فسنكون حتمًا على الطريق الصحيح.

ولكي نبدأ بحل المشكلات، علينا أن نبدأ برعاية المتضررين، مهما كانت انتماءاتهم.